فصل: فَصْـــل في بيان المكي والمدني من السورة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/  سورة الأنبياء

وقال ـ رَحِمَهُ الله‏:‏

 فَصْـــل

‏[‏سورة الأنبياء‏]‏ سورة الذكر،وسورة الأنبياء الذين عليهم نزل الذكر، افتتحها بقوله‏:‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏}‏ الآية ‏[‏الأنبياء‏:‏ 2‏]‏،وقوله‏:‏‏{‏فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 7‏]‏، وقوله ‏{‏لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏10‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ

وَذِكْرُ مَن قَبْلِي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏24‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏48‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏50‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏105‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 112‏]‏، يعنى ـ والله أعلم ـ انصر أهل الحق، أو انصر الحق، وقيل‏:‏ افصل الحق بيننا وبين قومنا، وكان الأنبياء يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏89‏]‏، وأمر محمدًا أن يقول‏:‏ ‏{‏رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ‏}‏، وروى مالك عن زيد بن أسلم قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالا قال‏:‏ ‏[‏رب احكم بالحق‏]‏‏.‏

/ سورة الحــج

وَقاَل الشيخ ـ رَحِمَهُ الله‏:‏

 فَصْـــل

‏[‏سورة الحج‏]‏ فيها مكى ومدنى، وليلى ونهارى، وسفرى وحضرى، وشتائى وصيفى، وتضمنت منازل المسير إلى الله، بحيث لا يكون منزلة ولا قاطع يقطع عنها‏.‏ ويوجد فيها ذكر القلوب الأربعة‏:‏ الأعمى والمريض، والقاسى والمخبت الحى المطمئن إلى الله‏.‏

وفيها من التوحيد والحِكَم والمواعظ على اختصارها ما هو بَيِّنٌ لمن تَدَبَّرَه، وفيها ذكر الواجبات والمستحبات كلها توحيدًا وصلاة وزكاة وحجًا وصيامًا، قد تضمن ذلك كله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 77‏]‏،فيدخل فى قوله‏:‏ ‏{‏وَافْعَلُوا الْخَيْرَ‏}‏ كل واجب ومستحب؛ فخصص فى هذه الآية وعمم، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏،فهذه الآية وما بعدها لم تترك خيرًا إلا جمعته ولا شرًا إلا نفته‏.‏

/ قال شيخ الإسلام‏:‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3، 4‏]‏،فى أثناء آيات المعاد وعَقَّبهَا بآية المعاد، ثم أتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 8 ـ 11‏]‏، فيه بيان حال المتكلمين، وحال المتعبدين المجادلين بلا علم، والعابدين بلا علم، بل مع الشك؛ لأن هذه السورة سورة الملة الإبراهيمية الذى جادل بعلم وعَبَدَ الله بعلم؛ ولهذا ضمنت ذكر الحج، وذكر المِلَلِ الست‏.‏

فقوله‏:‏ يجادل فى الله بلا علم‏:‏ ذم لكل من جادل فى الله بغير علم، وهو دليل على أنه جائز بالعلم كما فعل إبراهيم بقومه، وفى الأولى ذم المجادل بغير علم، وفى الثانية بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير‏.‏

وهذا ـ والله أعلم ـ من باب عطف الخاص على العام، أو الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، ليبين أن الذى يجادل بالكتاب أعلاهم، ثم بالهدى، فالعلم اسم جامع، ثم منه ما يعلم بالدليل القياسى فهو أدنى أقسامه فيخص / باسم العلم، ويُفْرِد ما عداه باسمه الخاص؛ فإما معلوم بالدليل القياسى، وهو علم النظر، وإما ما علم بالهداية الكشفية، كما للمحدثين وللمتفرسين، ولسائر المؤمنين، وهو الهدى، وإما ما نزل من عند الله من الكتب وهو أعلاها، فأعلاها العلم المأثور عن الكتب، ثم كشوف الأولياء، ثم قياس المتكلمين، وغيرهم من العلماء‏.‏

/ وَقَــالَ‏:‏

فى قوله تعالى‏:‏‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏11 ـ 13‏]‏، فإن آخر هذه الآية قد أشكل على كثير من الناس،كما قال طائفة من المفسرين كالثعلبى والبغوى،واللفظ للبغوى،قال‏:‏هذه الآية من مُشْكلاَت القرآن،وفيها أسئلة أولها‏:‏قالوا‏:‏قد قال الله تعالى فى الآية الأولى‏:‏‏{‏يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّه‏}‏، أى‏:‏لا يضره ترك عبادته،وقوله‏:‏‏{‏لَمَن ضَرُّهُ‏}‏، أى‏:‏ضر عبادته؛ قلت‏:‏هذا جواب‏.‏

وذكر صاحب ‏[‏الكشاف‏]‏ جوابًا غير هذا‏:‏ فقال‏:‏ فإن قلت‏:‏ الضر والنفع منتفيان عن الأصنام مثبتان لهما فى الآيتين، وهذا تناقض، قلت‏:‏ إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله سَفَّه الكافر بأنه يعبد جمادًا لا يملك ضرًا ولا نفعًا، وهو يعتقد فيه لجهله وضلاله / أنه يستشفع به حين يستشفع به، ثم قام يوم القيامة هذا الكافر بدعاء وصراخ حين رأى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التى ادعاها لها ‏{‏لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏13‏]‏، أو كرر ‏{‏ يَدْعُو‏}‏ كأنه قال‏:‏ ‏{‏يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ‏}‏، ثم قال‏:‏‏{‏لَمَن ضَرُّهُ‏}‏ بكونه معبودًا ‏{‏أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ‏}‏ بكونه شفيعًا ‏{‏لَبِئْسَ الْمَوْلَى‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ فقد جعل ضره بكونه معبودًا، وذكر تضرره بذلك‏.‏ وفى الآخرة‏.‏

وقد قال السدى ما يتضمن الجوابين فى تفسيره المعروف، قال‏:‏ ‏{‏مَا لَا يَضُرُّهُ‏}‏ قال‏:‏ لا يضره إن عصاه ‏{‏وَمَا لَا يَنفَعُهُ‏}‏ قال‏:‏ لا ينفعه الصنم إن أطاعه ‏{‏يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ‏}‏ قال‏:‏ ضره فى الآخرة من أجل عبادته إياه فى الدنيا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الذى ذكر من الجواب‏:‏ كلام صحيح لكن لم يبين فيه وجه نفى التناقض‏.‏

فنقول‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ‏}‏، هو نفى لكون المدعو المعبود من دون الله يملك نفعًا أو ضرًا‏.‏ وهذا يتناول كل ما سوى / الله من الملائكة والبشر والجن والكواكب والأوثان كلها، فإن ما سوى الله لا يملك لا لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا، كما قال تعالى‏:‏ فى سياق نهيه عن عبادة المسيح‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72 ـ 76‏]‏، وقد قال لخاتم الرسل‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏188‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏21‏]‏،وقال على العموم‏:‏ ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:107‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏، وقال صاحب يس‏:‏ ‏{‏وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22 ـ 25‏]‏‏.‏

وقـولـه‏:‏ ‏{‏يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 12‏]‏، نفى عام، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏89‏]‏، فهو لا يقدر أن يضر أحدًا سواء عبده أو لم يعبده، ولا ينفع أحدًا سواء عَبَدَه أو لم يعبده، وقول من قال‏:‏ لا ينفع إن عُبِدَ، ولا يضر إن لم يُعْبَد، بيان لانتفاء الرغبة والرهبة من جهته، بخلاف الرب الذى يكرم عابديه، ويرحمهم، ويهين من لم يعبده ويعاقبه‏.‏

والتحقيق‏:‏ أنه لا ينفع ولا يضر مطلقًا، فإن الله ـ سبحانه ـ وسعت رحمته كل شىء وهو ينعم على كثير من خلقه وإن لم يعبدوه، فنفعه للعباد لا يختص بعابديه، وإن كان فى هذا تفصيل ليس هذا موضعه، وما دونه لا ينفع لا من عبده ولا من لم يعبده؛ وهو ـ سبحانه ـ الضار النافع قادر على أن يضر من يشاء، وإن كان ما ينزله من الضر بعابديه هو رحمة فى حقهم، كما قال أيوب‏:‏ ‏{‏مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 38‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، وقال ـ أيضًا ـ لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏177‏]‏، وهو ـ سبحانه ـ يحدث ما يحدثه من الضرر بمن لا يوصف بمعصية من الأطفال والمجانين والبهائم؛ لما فى ذلك من الحكمة والنعمة / والرحمة، كما هو مبسوط فى غير هذا الموضع‏.‏

فإن المقصود هنا أن نفى الضر والنفع عمن سواه عام لا يجب أن يخص هذا بمن عبده، وهذا بمن لم يعبده، وإن كان هذا التخصيص حقًا باعتبار صحيح، وجواب من أجاب بأن معناه لا يضر ترك عبادته، وضره بعبادته أقرب من نفعه مبنى على هذا التخصيص‏.‏

وإذا كان كذلك،فنقول‏:‏المنفى قدرة من سواه على الضر والنفع‏.‏وأما قوله‏:‏ ‏{‏ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ‏}‏، فنقول أولا‏:‏المنفى هو فعلهم بقوله‏:‏ ‏{‏مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ‏}‏ والمثبت اسم مضاف إليه فإنه لم يقل‏:‏ يضر أعظم مما ينفع، بل قال‏:‏‏{‏لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ‏}‏ والشىء يضاف إلى الشىء بأدنى ملابسة، فلا يجب أن يكون الضر والنفع المضافين من باب إضافة المصدر إلى الفاعل،بل قد يضاف المصدر من جهة كونه اسمًا، كما تضاف سائر الأسماء، وقد يضاف إلى محله وزمانه ومكانه وسبب حدوثه،وإن لم يكن فاعلاً كقوله‏:‏‏{‏بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏33‏]‏،ولا ريب أن بين المعبود من دون الله وبين ضرر عابديه تعلق يقتضى الإضافة، كأنه قيل‏:‏ لمن شره أقرب من خيره، وخسارته أقرب من ربحه،فتدبر هذا‏!‏

ولو جعل هو فاعل الضر بهذا؛ لأنه سبب فيه لا لأنه هو الذى / فعل الضرر، وهذا كقول الخليل عن الأصنام‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏، فنسب الإضلال إلىهن، والإضلال هو ضرر لمن أضللنه، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، وهذا كما يقال‏:‏ أهلك الناس الدرهم والدينار، وأهلك النساء الأحمران الذهبَُ والحرير، وكما يقال للمحبوب المعشوق الذى تضر محبته وعشقه‏:‏ إنه عذب هذا وأهلكه وأفسده وقتله وعثره، وإن كان ذاك المحبوب قد لا يكون شاعرًا بحال هذا البتة، وكذلك يقال فى المحسود‏:‏ إنه يعذب حاسديه وإن كان لا شعور له بهم‏.‏

وفى الصحيحين عن عمرو بن عوف عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تُبْسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوا فيها، وتهلككم كما أهلكتهم‏]‏ ‏[‏البخارى فى الرقاق ‏(‏6425‏)‏، ومسلم فى الزهد والرقائق ‏(‏2961/6‏)‏، بلفظ فتنافسوها كما تنافسوها‏]‏ فجعل الدنيا المبسوطة هى المهلكة لهم؛ وذلك بسبب حبها والحرص عليها والمنافسة فيها، وإن كانت مفعولا بها لا اختيار لها، فهكذا المدعو المعبود من دون الله الذى لم يأمر بعبادة نفسه؛ إما لكونه جمادًا، وإما لكونه عبدًا مطيعًا لله من الملائكة والأنبياء والصالحين من الإنس والجن، فما يدعى من دون الله هو لا ينفع ولا يضر، لكن هو السبب فى دعاء الداعى له، وعبادته إياه‏.‏ وعبادة ذاك ودعاؤه هو الذى ضره، فهذا الضر المضاف إليه غير الضر المنفى عنه، / فضرر العابد له بعبادته يحصل فى الدنيا والآخرة‏.‏

وإن كان عذاب الآخرة أشد، فالمشركون الذين عبدوا غير الله حصل لهم بسبب شركهم بهؤلاء من عذاب الله فى الدنيا ماجعله الله عبرة لأولى الأبصار، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 100، 101‏]‏، فبين أنهم لم تنفعهم بل ما زادتهم إلا شرًا‏.‏

وقد قيل فى هذا، كما قيل فى الضر‏.‏ قيل‏:‏ ما زادتهم عبادتها،وقيل‏:‏ إنها فى القيامة تكون عونًا عليهم فتزيدهم شرًا، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81، 82‏]‏، والتتبيب‏.‏ عبر عنه الأكثرون‏:‏ بأنه التخسير، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏، وقيل‏:‏ التثبير والإهلاك، وقيل‏:‏ ما زادوهم إلا شرًا، وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، فعل ماض يدل على أن هذا كان فى الدنيا، وقد يقال‏:‏ فالشر كله من جهتهم، فلم قيل‏:‏ فما زادوهم‏؟‏ فيقال‏:‏ بل عذبوا على كفرهم بالله ولو لم يعبدوهم، فلما عبدوهم مع ذلك ازدادوا بذلك كفرًا وعذابًا، فما زادوهم إلا خسارة وشرًا، ما زادوهم ربحًا وخيرًا‏.‏

/ سورة المؤمنون

 قاَل شيخ الإسلام ـ رَحِمَهُ الله تعَالى ‏:‏

فى قوله تعالى‏:‏‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏35‏]‏ ،طال الفصل بين أن واسمها وخبرها، فأعاد ‏[‏أن‏]‏ لتقع على الخبر لتأكيده بها، ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏63‏]‏، لما طال الكلام أعاد ‏[‏أَنّ‏]‏ هذا قول الزجاج وطائفة، وأحسن من هذا أن يقال‏:‏ كل واحدة من هاتين الجملتين جملة شرطية مركبة من جملتين جزائىتىن، فَأُكِّدَت الجملة الشرطية بـ‏[‏أَنّ‏]‏ على حد تأكيدها فى قول الشاعر‏:‏

إن من يدخل الكنيسة يومًا ** يـلق فيها جـــآذرًا وظـباء

ثم أكدت الجملة الجزائىة بـ ‏[‏أن‏]‏ إذ هى المقصودة، على حد تأكيدها فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 170‏]‏‏.‏

ونظير الجمع بين تأكيد الجملة الكبرى المركبة من الشرط والجزاء، /وتأكيد جملة الجزاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 90‏]‏، فلا يقال فى هذا‏:‏ ‏[‏إنّ‏]‏ أعيدت لطول الكلام، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏74‏]‏‏.‏

ونظيره‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏، فهما تأكيدان مقصودان لمعنيين مختلفين،ألا ترى تأكيد قوله‏:‏‏{‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ بـ ‏[‏أنَّ‏]‏ غير تأكيد‏:‏‏{‏مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‏}‏ له بـ‏[‏أَنَّ‏]‏‏؟‏‏!‏ وهذا ظاهر لا خفاء به، وهو كثير فى القرآن وكلام العرب‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏147‏]‏،فهذا ليس من التكرار فى شىء، فإن ‏[‏قولهم‏]‏‏:‏ خبر ‏[‏كان‏]‏ قدم على اسمها، و ‏[‏أن قالوا ‏]‏‏:‏ فى تأويل المصدر، وهو الاسم، فهما اسم كان وخبرها، والمعنى‏:‏ وما كان لهم قول إلا قول‏:‏ ‏{‏ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏، ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏82‏]‏، والجواب قول؛ وتقول‏:‏ ما لفلان قول إلا قول‏:‏ ‏[‏لا حول ولاقوة إلا بالله‏]‏ فلا تكرار أصلاً‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏49‏]‏، فهى من أشكل ما أورد، ومما أعضل على الناس فهمها، فقال كثير من أهل الإعراب والتفسير‏:‏ إنه على التكرير المحض والتأكيد، قال الزمخشرى‏:‏ ‏{‏مِّن قَبْلِهِ‏}‏ من باب التوكيد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 17‏]‏، ومعنى التوكيد فيه‏:‏ الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبَعُدَ فاستحكم يأسهم، وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار بذلك على قدر اهتمامهم بذلك‏.‏ هذا كلامه‏.‏ وقد اشتمل على دعويين باطلتين‏:‏

إحداهما‏:‏ قوله‏:‏ إنه من باب التكرير‏.‏

والثانية‏:‏ تمثيله ذلك بقوله تعالى‏:‏‏{‏فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 17‏]‏، فإن ‏[‏فى‏]‏ الأولى على حد قولك‏:‏ زيد فى الدار، أى‏:‏ حاصل أو كائن، وأما الثانية‏:‏ فمعمولة للخلود وهو معنى آخر غير معنى مجرد الكون، فلما اختلف العاملان ذكر الحرفين، فلو اقتصر على أحدهما كان من باب الحذف لدلالة الآخر عليه، ومثل هذا لا يقال له تكرار، ونظير هذا أن تقول‏:‏ زيد فى الدار نائم فيها، أو ساكن فيها، ونحوه مما هو جملتان مقيدتان بمعنيين‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ‏}‏، فليس من التكرار بل تحته معنى دقيق، والمعنى فيه‏:‏ وإن كانوا من قبل أن ينزل / عليهم الودق من قبل هذا النزول لمبلسين، فهنا قَبْلِىّتان‏:‏ قبلية لنزوله مطلقًا، وقبلية لذلك النزول المعين ألا يكون متقدمًا على ذلك الوقت، فيئسوا قبل نزوله يَأْسَىنِ‏:‏ يأسًا لعدمه مرئيًا، ويأسًا لتأخره عن وقته، فقبل الأولى ظرف لليأس، وقبل الثانية ظرف المجىء والإنزال‏.‏

ففى الآية ظرفان معمولان، وفعلان مختلفان عاملان فيهما، وهما الإنزال والإبلاس، فأحد الظرفين متعلق بالإبلاس، والثانى متعلق بالنزول؛ وتمثيل هذا‏:‏ أن تقول ـ إذا كنت معتادًا للعطاء من شخص فتأخر عن ذلك الوقت ثم أتاك به‏:‏ قد كنت آيسًا‏.‏